تدلّى الكلامُ كقردٍ أليفٍ ولم يعُد يسعفهُ الغصنُ الرفيعُ على الشجرةِ الوحيدةِ، كلُّ هذه الصحراء بشجرةٍ وحيدةٍ لم تعد تعرف أين تنثرُ ظلّها القليل، تغيّر المزاج بتغيّرِ لون الحبرِ في المدى الأبيض الذي صار يصلحُ للكتابةِ منذ دقيقتين لا غير، دقيقتان كانتا ترقصان في صندوق الوقت، نسيهما قائدٌ عظيمٌ في إحدى حروبِهِ التي هُزم فيها، فأضاءتا ألف سنةٍ قبل أن تنطلقا كبومتين في ليلةٍ مناسبةٍ للصيد، صدَّقتُ ما قاله المؤرخون، لكني لم أعرف لماذا كان السؤال يرتبكُ دائماً حين يضعُ الولدُ حُلمَهُ جوار وسادته قبل أن ينام، ومع كل تلك الاحتياطات، كان يأتيه الحلم في الحلم، غامضاً وكئيباً، ومليئاً بمؤامراتٍ علويّةٍ وسناجبَ لها أنيابُ أفاعٍ جائعة.
الغابةُ، ومن يعرفُ ما تعنيه الغابةُ مثل راوي حكاياتٍ يأكلُ خبزَه من حكاياتِهِ؟ كم شجرةً أضافَ إلى الغابةِ في الكلام؟ كم معركةً تسلّقت أشجارَه في الكلام؟ كم طريقاً شقّتها أقدامُ الفيلة في الكلام؟ كم عدلاً نثر على الأرض كأوراق الخريف في الكلام؟ وأيّة غزالةٍ أسكَنَها قلبَ صيّادٍ في الكلام؟ هو الراوي وهو الغابةُ حين تصيرُ حرارةُ الليلِ أكثر مما تحتملُ الكلمات، ينزُّ فصولاً من مخلاتِهِ الفقيرة، ويُخرِجُ منها كلّ مئذنةٍ وصليبٍ وعواءات ذئاب، يخرج منها أدعيةً وجنازاتٍ وأمانٍ لم تتحقق، يُخرج منها جداولَ وصعاليكَ وفرساناً جاهزين للموتِ من أجل الحقيقة، يضحكُ سعدانُ الشجرة المُدلّى، ويمسكُ أوراقاً ناشفةً لم تسقط بعد، يفركها فتتفتتُ وتسقطُ في الريح، ويقول: هذه هي الحقيقة التي يموتون من أجلها، ويعلّقُ ذيلَهُ في الشجرةٍ ويسكبُ رأسهُ إلى الأسفل ويغني: تعال وشاهد العالم مثلما أراه الآن، فيحترقُ الراوي ولا يموت.
وفي منطقةٍ بمنطقٍ آخر، في ذات الغابةِ التي لا تحتملُ راويين، صلّى شيخٌ صلاةً غريبةً، لا لكي تتوقفَ الأُسْدُ عن قضمِ جَمَالِ الظباء، ولا لتسقطَ النمورُ في حُفرِ صيادي الجلود، ولا لتكفَّ الدببةُ عن قطفِ العسلِ من مخازنِ النحل، كلّ ما جاء في صلاتِهِ أن لا يأتي يوم ويَصْدُقُ فيه الراوي الذي ما زال يسيرُ محترقاً، قال وهو يرفعُ كفّيه نحو بقعةٍ صغيرةٍ من السماء ظهرت بين شجرتين عملاقتين: يا ربُّ، تَعْلَمُ أننا لا نستطيعُ الحياةَ دون وهمِ الحكايةِ، فلا تُلْهِمْهُ الحقيقةَ كي لا نقشِّرَ عن أرواحنا خَبَثَ الحقائق التي عذَّبَنا جوهرُها، فَتَنْتَنَا بخلقِنا، فلا تفتنّا بما لا نطيقُ، وكلما نفخَ دعاءه، ازدادت الأشجارُ خضرةً، وازدادت العصافيرُ ريشاً وغناءً، لم يكن يعنيه السبب، لكنه كان سعيداً كطفلٍ في مصنع حلوى دون حرّاس، منذ ألف سنةٍ يكرّرُ دعاءه ذاته كل ليلةٍ، وينام.
هبطَ الوعيُ على النهرِ الذي كان يغيّرُ مسارهُ كلّما ضحكت الغابةُ ثمراً وأعشاشاً، كان نهراً لئيماً بما يناسبُ أسطورةً لا يعرفُها أحد، أو يعرفُها الجميعُ بتفاصيلَ مختلفة، كانَ نهراً يملكُ قرارَه، حتى أنه تجمّدَ ذات خرافةٍ كي يمنعَ ضبعاً [تركَ أولاده صيداً للضباعِ] من الشرب، سلوكُهُ لم يُدهِش سكّان الغابةِ، حتى الضبع نفسه لم تخرسه الدهشةُ بل فهمَ درسَ النهر جداً، لكنه لم يَعُد إلى أولاده الذين تفرقوا بين القبائل، والنهرُ، كما الأنهارُ، له حكمتهُ ومجراه، وربما كان النهر الوحيد، حسب معرفة الراوي المحدودة، الذي صبّ في البحر وخرج من الناحية المقابلة، قَطَعَ البحر ولم يَضِعْ فيه كالأنهار التي يعرفها الناسُ، تمدّدَ كما شاء، ونوّعَ أسماكه كما شاء، وعمّقَ مجراهُ وضَحّلَهُ كما شاء، قالَ مؤرّخٌ لم يعش طويلاً بعد أن مرّ من هناك: كانَ هذا نهر لغة، ولم يفهم أحد مقصده، فهم لم يروا في النهر يوماً إلا ماءً يبلّل أقدامهم حين يخوضون فيه.
من بين من مرّوا من هناك، ولم يَنْسَهُم أحد، كان حصانُ الفضّةِ ذاك، عريفُ الخيل التي ما عادت تعطي اسمها للوقت، وتجرُّ إرثَ البشريّةِ حاملةً على أعناقِها كلمات الشعر وذكريات الفرسان، الخيلُ التي تأجّلت في الساحاتِ كي تكونَ زينةَ الحدائقِ ونزهةَ الأميراتِ في غروب الشمس، الخيلُ التي نامتْ ألف عامٍ قبل أن تكتشفَ أنها لم تعد تصلحُ إلا لسيول الكلام، حصانُ الفضّةِ ذاك، الذي له رسمُ على أضلاعه يشبه الأجنحة، كان يمضي في الغابةِ معلناً صهيلاً أخّاذاً، يذوِّبُ قلبَ كلّ كائنٍ حي، بل وأسقطَ صخرةً عن جبلِها ذات يوم، صهيلُهُ المعلّق في جذورِ الأشجارِ ما زال، يخرجُ في الأعيادِ ليرافقَ الأفكارَ التي تتحوّلُ إلى زهرِ برتقالٍ أو إلى ينبوعِ حكمةٍ أو إلى صوتِ معركةٍ بين ريحٍ وغصن، صوتُهُ ما زال يخرجُ ليرافق الأطفال الذين يقطعون الغابةَ دون علمِ أهلهم، لم يَخَفْ طفلٌ قطعَ الغابة منذ ذلك اليوم، فمن يخافُ حين يرافقُهُ صهيلُ الحصان الفضّي؟
وككلّ حكايةٍ عليها أن تنتهي، قرّرتْ إحدى الحكاياتِ ألا تفعل، فامتدّت إلى حدود الملل، كثرت أمكنتها وأبطالها وأزمنتها، حتى ما عاد الفرعُ يعرفُ أصلَهُ، ولا عاد الأصلُ يبحثُ عن فرعِهِ، صارت سماءً وأرضاً وصلواتِ قديسين وأضحياتٍ على الجبل، صارت بلاداً وتفاصيل وجوه، صارت معاول ومحاريث وأحجارَ بناءٍ وأحجار نرد، صارت بلابل ونسوراً وملوكاً وشعوباً، صارت ما لا يمكنُ لحكايةٍ أخرى أن تكونه، وما زال الراوي ينبشُ في مخلاتِهِ عن الحقيقةِ، لم تقنعه الحكايةُ، لم يقنعهُ السعدانُ المقلوبُ، ولم تقنعهُ الغابةُ بأنها تموتُ قليلاً مع كلّ حكايةٍ، لذلك، تدلّى الكلامُ كقردٍ أليفٍ ولم يعد يسعفهُ الغصنُ الرفيعُ على الشجرةِ الوحيدة، الصحراءُ اتّسعت، والشجرةُ ظلّت وحيدةً لا تعرفُ أين تنثرُ ظلالها القليلة، أيها الراوي، لا تَصْدُق، فليس فينا من يملكُ احتمال الحقيقة.
العشرون من أيلول 2015